٢٠٠٦-٠٥-٢٩

وحل


حين يمتزج الماء بالتراب وتختل النسبة بينهم .. يتكون الوحل ، واسوأ ما فى الوحل انه قادر على تلويث كل شئ حوله وتلطيخه .. فيكفى ان تكون بالقرب من بركة وحل حتى وان لم تقترب منها كى ينالك منها بعض الأثر .. واصعب ما فى الأمر انه ان لم يغسل اثره جيداً فأنه سيبقى وتبقى اثاره عالقة على ملابسك وجسدك تشعر به وان لم تره .ه
يكون الأمر اكثر ايلاماً اذا ما طرطرش احدهم الوحل فى كل الأنحاء فأصاب من اصاب ولوث من لوث .. لكن الأثر لم يكن على الأبدان والأثواب .. بل وصل الى النفوس والأرواح ، فحين تصبح النفوس موحلة .. والأرواح ملوثه بلطخات من الوحل الكريه ، يصبح الأمر كارثياً .. وحين تعم آثار التلوث لتصيب كل ارجاء الوطن كبيره وصغيره ، عظيمه ووضيعه .. فقل على هذا الوطن السلام.ه
يبدو الأمر دائماً وكأننى سوداوى المزاج ، متشائم .. لا أرى من الحياه ألا نصف الكوب الفارغ ، وإلى هؤلاء اقول .. انتم مخطئون ، فأنا أرى مثلكم نصف الكوب الممتلئ .. لكننى آراه ممتلئاً ماء آسناً .. عفناً ، وهو امتلاء لا ارى فيه اى بادرة خير على وجه الأطلاق بل ان كل نقطة تضاف الى هذا الكوب لن تزيده إلا عطناً على عطن .ه
أقول - والحق أقول - ان الأمر طال الكبير قبل الصغير ، والعالم قبل الجاهل وفى فارق بضعة أيام فى أسبوع واحد صادفت نوعين من الأرواح الملوثه بالوحل أحدهما لكبير يدعى أنه عالم ، والأخرى لمجموعة أطفال لم يتجاوزوا العاشرة بعد من أعمارهم .. لوُثت نفوسهم البريئة بفعل نظم تربية وتعليم .. فى البيت والمدرسة على رأسها نفس نوعية هذا الرجل .. الأب .. العالم - كما يدعى - الجامعى.ه
كان النموذج الأول مثيراً للتساؤل والتعجب .. بضعة أطفال يلعبون الكرة فى الشارع .. أعلم بحكم الجيرة انهم لم يتجاوزوا العاشرة بعد من أعمارهم .. لا تستطيع التمييز بين وجوههم فهم أطفال ليس بينهم الأشقر أو الأحمر .. استوقفنى بطريق الصدفة حوار دار بينهم بشكل صاخب ، كانوا يحاولون أبعاد أحدهم عن باقى المجموعة ويتصايحون
لأ متلعبش معانا
أنت مسيحى .. متلعبش معانا
تعال يا احمد بص على ايديه .. فيها صليب
متخلوهش يلعب معانا .. ده مسيحى
أنزوى الصبى الصغير .. فى احد الأركان بجوار منزله الذى يجاور منازل باقى المجموعة التى طردته من تجمعها وهو غيرمستوعب لما يحدث وعلامات عدم الفهم على ملامحه البريئة .. تجعلنى أريد البصق فى وجه كل من يتحدث عن الأخوة بين جناحى الأمة المصرية ، واشعر بالأزدراء لكل تصرفات أئمة السلطان من المسلمين والأقباط الذين يلعبون السياسة بحياة الشعوب .. واشعر اكثر بنوع من القرف والغثيان من حالات التعصب الأعمى التى وصل اليها حالنا .. فبتنا نتعصب لكى شئ ضد اى شئ .. بعد ان اختلت الموازين وانعكست الآيات .. وأصبح أكثر أفراد هذه الأمة ضحالة .. وتفاهة هم سادتها ، وصرنا نحتل مراتب متقدمة جداً فى ترتيب الأسوأ على مستوى على العالم فى كل التقارير الدولية وفى شتى المجالات .. التربية .. التعليم .. حقوق الأنسان .. التنمية البشرية والأنسانية .. الوضع الأقتصادى .. الوضع السياسى .. الوضع الأجتماعى .. ومن أعلى المستويات الى أدنها .. من مؤسسة الحكم .. الى مؤسسة الأسرة التى أفرزت اطفال يمارسون التعصب والتمييز .. وهم بعد فى سن الزهور .ه
تلك كانت الحادثة الأولى ، أما الأخرى وأظنها تسير فى نفس السياق فهى نموذج آخر لنفس المجتمع المشوه الذى يتوالى فى افراز أفراد مشوهون نفسياً يتوالون وراثة وتوريث نفس الأمراض جيلاً بعد جيل .. كان الأمر بسيطاً .. أحد استاذة الجامعة " عالم " كما يدعى ، يتولى تدريسى أحدى المواد الدراسية فى رحلة دراستى العليا " - وبت اشك كثيراً فى كلمة عليا هذه - يوشك الترم الدراسى على نهايته ، واحتاج توقيع هذا الأستاذ على ورقة تفيد انتظامى فى الحضور كى استطيع دخول امتحان المادة .. أمر روتينى لا يحتاج اى فذلكة .. وقفت أمام أستاذى العالم استأذنه فى التوقيع .. نظر إليا من خلف نظارته مشيراً الى أننى قد تغيبت أكثر من مرة .. لم أنكر فقد حدث هذا فعلاً ، كل ما فعلته اننى حاولت ان أعتذر عن ذلك معللاً ان ظروف عملى تجبرنى احياناً على التغيب المفاجئ .. لم يعجب الرد استاذى الجامعى .. فأزاح الورقة جانباً معطياً اياى درساً فى فن المراوغة وكيف اذا ماكنت ابحث عن مبررات فيجب ان تكون أكثر نضجاً وواقعية من مبرراتى الساذجة .. وان شعره الأبيض قد شاب وهو يتعامل مع أمثالى من المراوغين.ه
طوال فترة كلامه لم أعلق فأنا قصرت فعلاً فى الحضور ، ومن حقه ان يصدق او لا يصدق مبرراتى ، ومن حقه أكثر من ذلك ان يرفض التوقيع .. بل وان يرفض دخولى الأمتحان فى مادته هذا الترم ، وبأعتباره رئيساً للقسم الذى ادرس فيه دراستى " العليا " قد يستطيع ايضاً ان يلغى تسجيلى الذى بدأته منذ عامين اذا ما رأى أنى طالب غير ملتزم .. الى هذا الحد فأن الأمر يبدو مقبولاً .ه
وكان ان أختتم الأستاذ الجامعى الفاضل عباراته .. بجملة من ثلاث كلمات : ه
فاهم .. يا حمار
هناك نوعين من الأستجابة يصدران فى مثل هذه المواقف كلاهما تلقائى .. وكلاهما يتوقف على الفرد نفسه ومدى مرونته..أولهما أن " أطرمخ " على ما سمعت ، وأن أبتلع الكلمة واعتبرها كأن لم تكن حفاظاً على تعبى طوال عامين سابقين وأتمسح برداء الحكمة والتعقل ، والمطاطاة للريح والى كل آخر قاموس الليونة والمرونة الزائدة عن الحد . وثانى هذه الأستجابات التلقائية أن لا تقبل ان تبتلع الأهانة ولاتقبل ان تتحمل شخصاً موحل النفس والروح ، لم يحترم نفسه أولاً فأجبر طالبه على عدم احترامه .. فكان أن رددت على الأستاذ الجامعى بما لم أتجاوز به حدود الأدب .. ولكنه كان كافياً لأن يحمر وجه غضباً ويلقى بالأوراق فى جهى .. مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وبأننى سأندم على ردى ذلك ، ولأعتبر ان مجهود عامين قد ذهبا ادراج الرياح .. وانه طالما هو موجود فأننى لن أكمل دراستى فى القسم ولا أى قسم آخر من أقسام الكلية ، وانضم أليه أحد زملائه ممن سمع بالأمر .. وتطوع بأن نعتنى " بقلة الأدب " .ه
الأعجب فى الأمر.. انه بعد أن هدأت العاصفة قليلاً .. انتحى بى أحد زملاء الدراسة ممن يحمل درجة الماجستير فى القسم ويعمل به مدرساً مساعداً ، قائلاً بأننى قد تهورت واننى الخاسر الوحيد فى كل الأمر .. وأن هذا يشبه ما يحدث فى الجيش والشرطة .. وهى سمة فرعونية موروثه .. وأن هذه ليست اهانة بل هى كلمة متداولة على لسان هذا الأستاذ يصف بها من هم أقل منه سناً او درجة علمية ، وغيرهم - بشرط ألا يكونوا من أبناء اعضاء هيئة التدريس الذين امتلئت بهم كل أقسام الكلية - ويلقبونه " بأونكل " .. لم أستطع الرد على زميل دراستى .. لكنى أدركت منطق الوراثه الذى تحدث عنه ، وألتمست له العذر فهذا عمله ومستقبله .. وأدركت ان طرطشات الوحل تتناثر فى كل مكان حتى باتت أمراً عادياً لا يحتاج الى جهد فى تفاديه . ه
تلكم كانت حادثتين فى أسبوع واحد .. يصادف هذا الأسبوع عيد ميلادى الحادى والثلاثين .. ربما قدراً سئ الحظ ان تكون هذه السنون هى الأسوأ على الأطلاق فى تاريخ مصر الحديث .. وربما القديم ، لكنى بت أوقن يوماً بعد يوماً ان الوحل غطى ثوب هذا الوطن .. غطى نفوس البشر فيه وأرواحهم .. قبل ان يغطى عقولهم.ه